فصل: نفقة المحجور عليه لسفه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


سفْل

التّعريف

1 - السّفل بضمّ السّين كسرها لغةً ضدّ العُلو بضمّ العين وكسرها، والأسفل ضدّ الأعلى‏.‏ ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن المعنى اللّغويّ، إذ قالوا‏:‏ السّفل اسم لمبنىً مسقّف‏.‏ والمراد بالسّفل السّفل النّسبيّ لا الملاصق للأرض لأنّه قد يكون طباقاً متعدّدةً، فكلّ ما نزل عن العلو فهو سفل‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالسّفل

هدم السّفل وانهدامه

2 - إذا هدم صاحب السّفل سفله من غير حاجة حتّى انهدم يجبر على إعادته‏.‏ بهذا يقول جمهور الفقهاء، واستدلّوا بأنّ صاحب السّفل أتلف حقّ صاحب العلو بإتلاف محلّه ويمكن جبره بالإعادة فتجب عليه إعادته‏.‏

وذهب الشّافعيّة إلى أنّه لو انهدم السّفل ولو بهدم مالكه تعدّياً لم يجبره صاحب العلو على إعادته لأجل بنائه عليه‏.‏

أمّا لو انهدم السّفل بلا صنع صاحبه لم يجبر على بنائه لعدم التّعدّي‏.‏ بهذا يقول الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة في إحدى الرّوايتين‏.‏

قال الكاسانيّ‏:‏ ولصاحب العلو أن يبني السّفل من مال نفسه، ثمّ يرجع بما أنفق إن بنى بإذن صاحب السّفل أو إذن القاضي وإلاّ فبقيمة البناء يوم بنى‏.‏

لأنّ البناء في هذه الحالة وإن كان تصرّفاً في ملك الغير لكن فيه ضرورة‏.‏ لأنّ صاحب العلو لا يمكنه الانتفاع بملك نفسه إلاّ بالتّصرّف في ملك غيره فصار مطلقاً له شرعاً، وله حقّ الرّجوع بقيمة البناء مبنيّاً، لأنّ البناء ملكه لحصوله بإذن الشّرع وإطلاقه له فله أن لا يمكّنه من الانتفاع بملكه إلاّ ببدل يعدله وهو القيمة‏.‏

ويرى المالكيّة وأبو ثور وهو المذهب عند الحنابلة أنّ صاحب السّفل يجبر على البناء ليتمكّن صاحب العلو من انتفاعه به‏.‏

التّنازع في السّقف

3 - لو كان السّفل لواحد والعلو لآخر وتنازعا في السّقف ولا بيّنة فالسّقف للأسفل عند التّنازع، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ‏}‏‏.‏ فأضاف السّقف للبيت والبيت للأسفل، ولأنّ يد ربّ السّفل أسبق فشهد الظّاهر له - بهذا يقول الحنفيّة والمالكيّة‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ السّقف المتوسّط بين سفل أحدهما وعلو الآخر كالجدار بين ملكيهما، فإذا تداعياه فإن لم يكن إحداثه بعد بناء العلوّ كالأزج الّذي لا يمكن عقده على وسط الجدار بعد امتداده في العلو جعل في يد صاحب السّفل، لاتّصاله ببنائه على سبيل التّرصيف، وإن أمكن بأن يكون السّقف عالياً فيثقب وسط الجدار وتوضع رءوس الجذوع في الثّقب فيصير البيت بيتين، فهو في أيديهما لاشتراكهما في الانتفاع به‏.‏

ويرى الحنابلة أنّ السّقف بينهما، لانتفاع كلّ منهما به، لا لصاحب العلو وحده‏.‏

إشراف الجار الأعلى على دار الجار الأسفل

4 - ذهب المالكيّة‏:‏ وهو المفتى به عند الحنفيّة - إلى أنّه يقضى على من أحدث كوّةً أو باباً أو غرفةً من داره يشرف منها على جاره أن يسدّ جميعها‏.‏

وأمّا الكوّة القديمة فلا يقضى بسدّها ويقال للجار استر على نفسك إن شئت‏.‏

وقال الخير الرّمليّ من الحنفيّة‏:‏ لا فرق بين القديم والحديث حيث كانت العلّة الضّرر البيّن لوجودها فيهما‏.‏

ويرى الحنفيّة في المذهب - وهو ما يؤخذ من عبارات فقهاء الحنابلة - أنّ من أحدث شبّاكاً أو بناءً جديداً وجعل له شبّاكاً على المحلّ الّذي هو مقرّ لنساء جاره سواء كان ملاصقاً أو بينهما طريق فاصل فإنّه يؤمر برفع الضّرر، ويجبر على رفعه بصورة تمنع وقوع النّظر إمّا ببناء حائط أو وضع طبلة، لكن لا يجبر على ستر الشّبّاك بالكلّيّة‏.‏

ويرى الشّافعيّة في المذهب أنّه يجوز للمالك فتح كوّات وشبابيك في ملكه ولو لغير الاستضاءة، لأنّه تصرّف في ملكه‏.‏

وقيّد الجرجانيّ جواز فتح الكوّات بما إذا كانت عاليةً لا يقع النّظر منها إلى دار جاره، إلاّ أنّ الشّيخ أبا حامد صرّح بجواز فتح كوّة في ملكه مشرفة على جاره وعلى حريمه، وليس للجار منعه، لأنّه لو أراد رفع جميع الحائط لم يمنع منه فإذا رفع بعضه لم يمنع‏.‏

وقال بعض متأخّري الشّافعيّة‏:‏ يندفع الضّرر عن الجار بأن يبني في ملكه جداراً يقابل الكوّة ويسدّ ضوأها ورؤيتها فإنّه لا يمنع من ذلك‏.‏

وصرّح البجيرميّ أنّه يحرم على الشّخص فتح كوّة في جداره يطّلع منها على عورات جاره‏.‏

سَفَه

التّعريف‏:‏

1 - السّفه والسّفاه والسّفاهة‏:‏ ضدّ الحلم، وهي مصادر سفه يسفه من باب تعب، وهو نقص في العقل أصله الخفّة والحركة‏.‏

يقال‏:‏ تسفّهت الرّيح الشّجر - أي‏:‏ مالت به، وسفه بالضّمّ وسفه بالكسر، أي‏:‏ صار سفيهاً، والجمع سفهاء وسفّه وسفاه‏.‏ والمؤنّث منه سفيهة، والجمع سفائه‏.‏

واصطلاحاً‏:‏ هو التّبذير في المال والإسراف فيه ولا أثر للفسق والعدالة فيه‏.‏

ويقابله الرّشد‏:‏ وهو إصلاح المال وتنميته وعدم تبذيره‏.‏

وهذا عند الجمهور ‏"‏ أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمّد، ومالك، وهو المذهب عند الحنابلة، والمرجوح عند الشّافعيّة، وهو قول الحسن، وقتادة، وابن عبّاس، والثّوريّ، والسّدّيّ، والضّحّاك ‏"‏‏.‏

والرّاجح عند الشّافعيّة أنّه‏:‏ التّبذير في المال والفساد فيه وفي الدّين معاً‏.‏ وهو قول لأحمد‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الحجر‏:‏

2 - هو مصدر قولك حجر عليه القاضي يحجر حجراً‏:‏ إذا منعه من التّصرّف في ماله‏.‏ والسّفه سبب من أسباب الحجر‏.‏

ب - الْعَتَه‏:‏

3 - العته نقص في العقل من غير جنون أو دهش، والمعتوه النّاقص العقل‏.‏

والفرق بينه وبين السّفه أنّ العته‏:‏ عبارة عن آفة ناشئة عن الذّات توجب خللاً في العقل فيصير صاحبه مختلط العقل فيشبه بعض كلامه كلام العقلاء، وبعضه كلام المجانين بخلاف السّفه فإنّه خفّة تعرض للإنسان وليست السّفه في ذاته‏.‏

ج - الرّشد‏:‏

4 - الرّشد‏:‏ الصّلاح في المال عند الجمهور، وعند الشّافعيّة الصّلاح في المال والدّين جميعاً فهو ضدّ السّفه‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ رشد‏)‏‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالسّفه

أوّلاً‏:‏ أحوال السّفه

4 م - للسّفه حالتان‏:‏

الأولى‏:‏ استمرار السّفه بعد بلوغ الإنسان أو إفاقته من الجنون‏.‏

الثّانية‏:‏ طروءه بعد البلوغ والرّشد‏.‏

أمّا الأولى‏:‏ فقد ذهب جمهور الفقهاء ومنهم صاحبا أبي حنيفة إلى استمرار الحجر على السّفيه بمنعه من التّصرّف في ماله، إذ الحجر على الصّبيّ والمجنون متّفق عليه، فإن بلغ الصّبيّ أو أفاق المجنون وهما مبذّران لمالهما استمرّ الحجر عليهما ومنعا من التّصرّف‏.‏ وأمّا أبو حنيفة فإنّه لا يحجر عليه بعد البلوغ، ولو بلغ غير رشيد إلاّ أنّه يمنع وليّه من دفع ماله إليه، ولا يمنعه من أن يتصرّف بماله ببيع أو عتق أو نحوهما‏.‏

ولا يدفع إليه ماله إلاّ أن يبلغ عمره خمساً وعشرين سنةً، فإذا بلغها دفع إليه ماله سفه أو رشد‏.‏

استدلّ الجمهور القائلون بالحجر على السّفيه بالسّفه المستمرّ بعد بلوغ الصّبيّ وإفاقة المجنون، أو الّذي حصل بعد بلوغه وإفاقته رشيداً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ‏}‏‏.‏

ووجه الاستدلال بها - أنّ اللّه تعالى أمرنا بدفع أموال اليتامى بعد البلوغ مع إيناس الرّشد، لا في غير هذه الحال‏.‏

وبقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً‏}‏‏.‏

ووجه الاستدلال بها - أنّ اللّه ينهى عن إيتاء المال السّفهاء ولم يرخّص للأولياء إلاّ برزقهم منها أكلاً ولبساً‏.‏ ويدلّ على أنّ إضافة المال إلى الأولياء ليس المراد به مال الوليّ بل مال السّفيه‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ‏}‏ لأنّه لا يرزق ولا يكسى إلاّ من ماله‏.‏ وبقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ‏}‏‏.‏ ووجه الاستدلال بها - أنّه جعل عبارة السّفيه كعبارة من لا يستطيع التّعبير جعل عبارة وليّه تقوم مقام عبارته وأوجب الولاية عليه، وهذه هي أمارات الحجر‏.‏

كما استدلّوا بما رواه المغيرة بن شعبة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إنّ اللّه كره لكم ثلاثاً‏:‏ قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السّؤال»‏.‏

ووجه الاستدلال به‏:‏ أنّ النّهي عن الشّيء أمر بضدّه، وهنا يدلّ النّهي على وجوب المحافظة على المال، وإبقاؤه بيد السّفيه المبذّر له مخالف للأمر، فيجب حجره عنه‏.‏

وبما ورد أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «خذوا على يد سفهائكم»‏.‏

وبما روى الشّافعيّ في مسنده عن عروة بن الزّبير قال‏:‏ ابتاع عبد اللّه بن جعفر بيعاً فقال عليّ رضي الله عنه‏:‏ لآتينّ عثمان رضي الله عنه فلأحجرنّ عليك، فأعلم ذلك ابن جعفر للزّبير فقال أنا شريكك في بيعك، فأتى عليّ عثمان رضي الله عنهما، فقال‏:‏ احجر على هذا، فقال الزّبير‏:‏ أنا شريكه، فقال عثمان‏:‏ أحجر على رجل شريكه الزّبير‏؟‏

ووجه الاستدلال به‏:‏ أنّ عليّاً وعثمان والزّبير وعبد اللّه بن جعفر لم يحصل منهم إنكار للحجر، بل عليّ طلبه والآخرون لم ينكروه فاحتال الزّبير بحيلة الشّركة حتّى لا يعدّ عبد اللّه بن جعفر مغبوناً في ذلك‏.‏

واستدلّوا من المقولة‏:‏ أنّه مبذّر في ماله فيكون محجوراً عليه كالصّبيّ بل أولى، لأنّ الصّبيّ إنّما يكون محجوراً عليه لتوهّم التّبذير منه، وقد تحقّق التّبذير والإسراف هنا فلأن يكون محجورًا عليه أولى‏.‏

واستدلّ أبو حنيفة ومن وافقه في عدم الحجر على السّفيه بعد البلوغ ولكن لا يدفع إليه ماله حتّى يبلغ الخامسة والعشرين من عمره‏:‏ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ‏}‏‏.‏

ووجه الاستدلال بها - أنّ اللّه تعالى نهى الوليّ عن الإسراف في مال اليتيم مخافة أن يكبر فلا يبقى له عليه ولاية، والتّنصيص على زوال ولايته عنه بعد الكبر يكون تنصيصاً على زوال الحجر عنه بالكبر، لأنّ الولاية عليه للحاجة، وإنّما تنعدم الحاجة إذا صار هو مطلق التّصرّف بنفسه‏.‏

واستدلّوا بحديث حبّان بن منقذ الأنصاريّ‏:‏ «أنّه كان يغبن في البياعات لآفة أصابت رأسه فسأل أهله رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يحجر عليه فقال‏:‏ إنّي لا أصبر عن البيع‏.‏ فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ إذا بعت فقل‏:‏ لا خلابة جعل له الخيار ثلاثة أيّام»‏.‏

ووجه الاستدلال به‏:‏ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يحجر عليه على الرّغم من طلب أهله ذلك فلو كان الحجر مشروعاً على من يغبن لحجر عليه‏.‏

واستدلّوا من المعقول بأنّ السّفيه حرّ مخاطب فيكون مطلق التّصرّف في ماله كالرّشيد، وهذا لأنّ وجود التّصرّف حقيقةً يكون بوجود ركنه، ووجوده شرعاً يكون بصدوره من أهله وحلوله في محلّه، وقد وجد ذلك كلّه في تصرّف السّفيه في ماله‏.‏

وأمّا الثّانية‏:‏ فهي أن يبلغ الصّبيّ أو يفيق المجنون رشيدين، ثمّ يطرأ السّفه عليهما بعد ذلك فهل يحجر عليهما‏؟‏‏.‏

اختلف الفقهاء في ذلك‏:‏

أ - فذهب جمهور الفقهاء إلى لزوم الحجر بالسّفه الطّارئ، وكذا يحجر عليه عند أبي يوسف ومحمّد في الأمور الّتي يبطلها الهزل لا الأمور الّتي لا يبطلها الهزل، لأنّ السّفيه عندهما في معنى الهازل يخرج كلامه عن نهج كلام العقلاء لاتّباع الهوى ومكابرة العقل لا لنقصان في عقله فكذلك السّفيه‏.‏

وممّن قال بالحجر بالسّفه الطّارئ‏:‏ عثمان، وعليّ، والزّبير، وعائشة، وابن عبّاس، وعبد اللّه بن جعفر، وشريح، مالك، والشّافعيّ، والأوزاعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور‏.‏

ب - وذهب أبو حنيفة‏:‏ إلى عدم جواز الحجر عليه ومنعه من ماله، وهو رأي زفر وإبراهيم النّخعيّ وابن سيرين‏.‏

هل يشترط حكم قاض بالحجر لترتّب أحكامه عليه‏؟‏

5- السّفه - كما تقدّم - على نوعين‏:‏

أ - سفه يعقب الصّبا، وذلك بأن يبلغ سفيهاً‏.‏

ب - وسفه يطرأ بعد بلوغ الصّبيّ رشيداً‏.‏

فالأوّل‏:‏ اختلف الفقهاء في افتقاره إلى قضاء القاضي على رأيين‏:‏

أحدهما‏:‏ لا يفتقر إلى قضاء قاض، لأنّ الحجر سيدوم، وذلك لأنّ اللّه تعالى علّق دفع أموالهم إليهم على إيناس الرّشد منهم فإن لم يؤنس رشدهم فهم محجورون، والحجر عليهم بقضاء تحصيل الحاصل‏.‏

وإلى هذا ذهب الشّافعيّة، والحنابلة، ومحمّد بن الحسن، وهو قول محمّد بن القاسم‏.‏ وثانيهما‏:‏ افتقاره إلى قضاء قاض‏:‏ وهو المذهب عند المالكيّة ورأي أبي يوسف‏.‏

ولذلك أجاز مالك تصرّفاته قبل الحجر عليه وهو ما يسمّى بالسّفيه المهمل، لأنّ الحجر على السّفيه لمعنى النّظر له، وهو متردّد بين النّظر والضّرر، ففي إبقاء الملك له نظر، وفي إهدار قوله ضرر، وبمثل هذا لا يترجّح أحد الجانبين منه إلاّ بقضاء القاضي‏.‏

وأمّا الثّاني‏:‏ فقد اختلف الفقهاء فيه على ثلاثة آراء‏:‏

الرّأي الأوّل‏:‏ لا يكون محجوراً عليه إلاّ بعد قضاء قاض بذلك، للخبر المتقدّم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «خذوا على يد سفهائكم»‏.‏

ولقول عليّ في الأثر الّذي رواه الشّافعيّ‏:‏ ‏"‏ لآتينّ عثمان ليحجر عليك ‏"‏‏.‏

ولأنّ التّبذير يختلف فيحتاج إلى الاجتهاد وإذا افتقر السّبب إلى الاجتهاد لم يثبت إلاّ بحكم الحاكم كالحجر على المفلس‏.‏

وهذا هو المذهب عند الحنابلة، والرّاجح عند الشّافعيّة، وبه قال أبو يوسف من الحنفيّة، وهو مذهب مالك وأصحابه ما عدا محمّد بن القاسم‏.‏

ولا يحجر عليه إلاّ الحاكم فإذا أراد الوالد أن يحجر على ولده أتى الإمام ليحجر عليه‏.‏ الرّأي الثّاني‏:‏ لا يفتقر إلى قضاء قاض، لأنّه يكون محجوراً عليه بمجرّد كونه مبذّراً، كما أنّ إصلاحه لماله يطلقه من الحجر نظراً لوجود الموجب وزواله فأشبه المجنون، وهو ما ذهب إليه محمّد بن الحسن، وابن القاسم من المالكيّة، والمرجوح عند الشّافعيّة‏.‏

الرّأي الثّالث‏:‏ التّفصيل وهو أنّه إن زال عنه الحجر برشده بعد البلوغ بلا حكم حاكم ثمّ سفه عاد بلا حكم حاكم، وإن زال عنه بحكم حاكم فلا بدّ من قضاء القاضي بعودته وهو وجه آخر للحنابلة‏.‏ وعلّلوا ذلك بأنّه كما رفع بقضاء فلا يعود إلاّ بقضاء‏.‏

إشهاد القاضي على حجره أو إعلانه

6 - ذهب من قال‏:‏ إنّه لا بدّ من قضاء قاض للحجر عليه إلى أنّه يستحبّ للقاضي أن يشهد على حجره وأن يظهر ذلك ويعلنه ويشهره في الأسواق والجامع، ليعلم النّاس بحاله، وليتجنّبوا معاملته ويعلمهم أنّ من عامله فقد ضيّع ماله‏.‏

وإن رأى القاضي النّداء بذلك جعل من ينادي بالنّاس بحجره، وهو ما صرّح به المالكيّة والحنابلة، والشّافعيّة‏.‏

ويترتّب على الخلاف في اشتراط الحجر عليه من قبل القاضي وعدمه ما يلي‏:‏

إذا عامل السّفيه شخص علم بسفهه أو لم يعلم بشراء أو إقراض ثمّ تلف الشّيء المشترى أو ضاع حقّ المقرض فهل يضمن هو أو الضّمان على الشّخص المتعامل معه‏؟‏

ذهب المالكيّة‏:‏ إلى أنّ تصرّفه بعد الحجر عليه مردود ولو حسن تصرّفه ما لم يحصل الفكّ عنه‏.‏

وإن تعامل معه أحد وهو يجهل - فأفعاله لا تردّ باتّفاق فقهائهم‏.‏

وإن علم ولم يكن قد حجر عليه - بأن كان مهملاً لا وليّ له‏:‏ فتصرّفه ماض ولازم، فلا يردّ ولو كان بدون عوض كعتق، لأنّ علّة الرّدّ الحجر عليه - وهو مفقود وهذا قول مالك وكبراء أصحابه - وهو المعتمد في المذهب‏.‏

أمّا ابن القاسم فإنّه قال لا يمضي - لأنّه لا يشترط للحجر القضاء - وعلى من يتولّى عليه من حاكم أو مقدّم الرّدّ، وكذا له هو الرّدّ بعد الرّشد‏.‏

أمّا بعد الحجر عليه - فإنّه مردود ولو حسن تصرّفه ما لم يحصل الفكّ عنه من وصيّ أو حاكم أو مقدّم، وهذا أيضاً عند مالك وجلّ أصحابه، لوجود علّة الحجر عليه - وهو السّفه‏.‏ وقال ابن القاسم‏:‏ إذا رشد فتصرّفه ماض قبل الفكّ، لأنّ العلّة مجرّد السّفه وقد زال برشده‏.‏ وذهب الشّافعيّة في - الأصحّ عندهم - إلى أنّه لا يكون محجوراً إلاّ بعد قضاء قاض ولهذا قالوا‏:‏ لو أقرضه شخص مالاً - بعد الحجر - أو باع منه متاعاً لم يملكه، لأنّه محجور عليه لعدم الرّشد، فإن كانت العين باقيةً ردّت، وإن كانت تالفةً لم يضمنها‏.‏ علم بحاله أو لم يعلم، ولا يضمن قبل فكّ الحجر ولا بعده لأنّه، إن كان عالمًا بحاله فقد تعامل معه على بصيرة وإنّ ماله سيضيع‏.‏ وإن لم يعلم فقد فرّط حين ترك استظهار أمره ودخل في معاملته على غير معرفة وعدم ضمانه بعد فكّ الحجر عنه بحسب الظّاهر‏:‏ هو إجماع الشّافعيّة‏.‏

7- وهل يلزمه الضّمان باطناً أي‏:‏ فيما بينه وبين اللّه تعالى‏؟‏

اختلفوا فيه على وجهين‏:‏

الوجه الأوّل‏:‏ يلزمه ضمانه، وبه قال الصّيدلانيّ والعمرانيّ، وهو ما نصّ عليه الشّافعيّ في الأمّ، وذلك لأنّ الحجر لا يبيح له مال غيره، وهذا هو الظّاهر‏.‏

الوجه الثّاني‏:‏ لا يلزمه ضمانه، وهو الأصحّ عند الغزاليّ والنّوويّ‏.‏

والتّفصيل السّابق مقيّد بما إذا قبض السّفيه المال من رشيد بإذنه وتلف المقبوض قبل مطالبة صاحبه به‏.‏

أمّا لو قبضه من غير رشيد أو من رشيد بغير إذنه، أو تلف بعد مطالبته صاحبه به فإنّ السّفيه يضمن دون خلاف‏.‏

وذهب الحنابلة‏:‏ إلى أنّ من عامل السّفيه بعد الحجر عليه من قبل القاضي وأتلف السّفيه المال فلا ضمان عليه، والضّمان على من عامله علم بالحجر أو لم يعلم - كما ذكر الشّافعيّة - وهذا إذا كان المعامل هو الّذي سلّطه عليه‏.‏

أمّا إذا كان السّفيه هو الّذي تسلّط عليه دون إذن صاحبه فإنّ القاضي أبا بكر قد أوجب عليه الضّمان إن أتلفه أو تلف بتفريطه لأنّه لا تفريط من مالكه‏.‏

نقض قرار القاضي بالحجر بقرار قاض آخر

7 م - قال الحنفيّة‏:‏ إذا حجر قاض على سفيه، ثمّ رفع القرار إلى قاض آخر فأطلق حجره وأجاز ما كان باعه أو اشتراه أو تصرّف به حالة الحجر ولم ير حجر الأوّل شيئاً جاز إطلاقه وإبطال حجره‏.‏ لأنّه لو تحوّل رأي الأوّل فأطلق عنه الحجر جاز فكذلك الثّاني‏:‏

وذلك لأنّ الحجر على السّفيه مجتهد فيه‏.‏

ثمّ الحجر عليه لم يكن قضاءً من القاضي، لأنّ القضاء يستدعي مقضيّاً له ومقضيّاً عليه ولم يوجد ذلك، إنّما كان ذلك نظراً منه، وقد رأى الآخر النّظر له في إطلاقه فينفذ ذلك منه‏.‏

فكّ الحجر عن السّفيه

8 - جمهور الفقهاء ومنهم الصّاحبان القائلون بالحجر على السّفيه يرون أنّه لا يفكّ الحجر عنه إلاّ بعد إيناس الرّشد منه‏.‏

وذهب أبو حنيفة القائل بأنّه لا يحجر على البالغ إلاّ أنّه يمنع الوليّ من دفع ماله إليه إذا بلغ غير رشيد إلى أنّه يبلغ خمسةً وعشرين عاماً من عمره، فإذا بلغ هذه السّنّ دفع إليه أمواله رشد أم لم يرشد‏.‏

واستدلّ‏:‏ بأنّه مخاطب عاقل فلا يحجر عليه اعتباراً بالرّشيد‏.‏

وبأنّ في الحجر سلب ولايته وإهدار آدميّته وإلحاقه بالبهائم، وهو أشدّ ضرراً من التّبذير‏.‏ فلا يحتمل الضّرر الأعلى لدفع الأدنى، ولأنّ الغالب في هذه المدّة إيناس الرّشد، لأنّه يصلح أن يكون جدّاً فيها ولقول عمر رضي الله عنه‏:‏ إنّه ينتهي لبّ الرّجل إلى خمس وعشرين سنةً‏.‏ وقد فسّر الأشدّ بذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ‏}‏‏.‏

من يفكّ حجر السّفيه

9 - السّفه - كما تقدّم - نوعان‏:‏ نوع استمرّ بعد البلوغ، وآخر طرأ بعد بلوغه رشيداً‏.‏ أمّا إذا كان قد استمرّ بعد البلوغ‏:‏ فقد اختلف الفقهاء في زوال الحجر عنه على ثلاثة آراء‏:‏ أحدها‏:‏ إنّه يزول بعد زوال السّفه ولا يحتاج إلى حكم حاكم، أو فكّ وليّ، أو إذن زوج، وهو الرّاجح عند الشّافعيّة، وقول من لا يرى لزوم حكم الحاكم في الحجر عليه‏.‏

وعلّلوا ذلك بأنّه ثبت بدون حكم حاكم فيزول بغير حكم حاكم كالحجر على المجنون‏.‏

وثانيها‏:‏ لا بدّ من حكم حاكم في زواله، وهو القول الثّاني للشّافعيّة، لأنّ الرّشد يحتاج إلى نظر واجتهاد، وهو قول أبي يوسف‏.‏

وعلّل ذلك بأنّه لا بدّ من حجر القاضي عليه فلا يفكّ إلاّ بقرار منه‏.‏

وثالثها‏:‏ إن كان وليّه الوصيّ أو مقدّم القاضي فلا يحتاج فكّهما الحجر عنه إلى إذن القاضي بل هما يفكّانه‏.‏

أمّا إن كان الأب فإنّه يفكّ عنه برشده، إلاّ إذا حجر عليه قبل الرّشد، وهو المذهب عند المالكيّة‏.‏

وإن طرأ بعد بلوغه رشيداً فقد اختلف فيه على مذهبين‏:‏

أحدهما‏:‏ يشترط لفكّه قضاء قاض، وهو المذهب عند الحنابلة، وبه قال أبو يوسف، وهو المفتى به في مذهب مالك، وبه قال الشّافعيّة، وجميع من يشترط لحجره حكم حاكم‏.‏ وعلّلوا ذلك‏:‏ بأنّه ثبت بحكم حاكم فلا يزول إلاّ بحكم حاكم‏.‏

وثانيهما‏:‏ لا يشترط قضاء القاضي لزواله بل يكفي انتفاء السّفه عنه لاعتباره رشيداً وهو قول أبي الخطّاب من الحنابلة، لأنّه حجر سببه السّفه وقد زال كالصّغر والجنون‏.‏

ادّعاء الرّشد أو السّفه وإقامة البيّنة على ذلك

10 - إذا ادّعى المحجور عليه لسفه أنّه قد رشد وأقام الوليّ أو الوصيّ بيّنةً أخرى بالسّفه أو باستمراره‏.‏ فإن ذكرت البيّنتان التّاريخ واختلف أخذ بذات التّاريخ المتأخّر‏.‏

وإن جاءتا مقيّدتين بوقت معيّن واستوتا في ذلك الوقت قدّمت بيّنة السّفه‏.‏

وهذا ما صرّح به الشّافعيّة والحنفيّة ‏;‏ لأنّ معها زيادة علم - وهو استصحاب الأصل‏.‏

إلاّ أنّ الشّافعيّة اشترطوا لقبول شهادة السّفه والرّشد بيان سببهما، إذ قد يظنّ أنّ بعض الصّرف هو نوع من السّرف - كأن يأكل ويلبس الأشياء النّفيسة اللّائقة بأمثاله والواقع أنّه ليس بسرف، وقد يظنّ أنّ إصلاح نوع من التّصرّف هو رشد، لذلك لا بدّ من بيان سبب السّفه والرّشد‏.‏

أمّا إذا جاءت مطلقةً عن التّوقيت فقد قال الشّافعيّة‏:‏ تقدّم بيّنة الرّشد‏.‏

الولاية على مال السّفيه

11 - تقدّم أنّ السّفه قسمان‏:‏ مستمرّ بعد البلوغ، وطارئ بعد بلوغه رشيداً‏.‏

أ - فإن كان الأوّل‏:‏ فقد ذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّ الأولى بالولاية الأب ثمّ وصيّه، وزاد الحنابلة‏:‏ إن لم يوص الأب فللحاكم أن يقيم أميناً في النّظر في أقواله وهو ما رجّحه ابن تيميّة‏.‏ ثمّ بعد وصيّ الأب الحاكم، وزاد الحنابلة إن لم يوجد الحاكم فأمين يقوم به‏.‏ وذهب الحنفيّة‏:‏ إلى أنّ الوليّ هو الأب، ثمّ وصيّه بعد موته، ثمّ وصيّ وصيّه، ثمّ الجدّ الصّحيح وإن علا، ثمّ وصيّه ثمّ وصيّ وصيّه ثمّ القاضي أو وصيّه‏.‏

وذهب الشّافعيّة‏:‏ إلى أنّ الأولى الأب، ثمّ الجدّ، لأنّهما أشفق عليه، ثمّ القاضي أو السّلطان‏.‏

وقد اتّفق الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّ الولاية في هذه الحالة للسّلطان أو للقاضي فقط، لأنّه هو الّذي يعيد عليه الحجر ويفكّه، إذ ولاية الأب ونحوه قد زالت فينظر له من له النّظر العامّ وهو الرّاجح من قولي الشّافعيّة، وهو القياس عند الحنفيّة، وقيل‏:‏ هو قول أبي يوسف‏.‏

أمّا الرّأي المرجوح عند الشّافعيّة والاستحسان عند الحنفيّة - وقيل‏:‏ هو قول محمّد - فالأولى بذلك هو من ذكر في السّفه الاستمراريّ‏.‏

ب - وإن كان الثّاني‏:‏ فالّذي يظهر من إطلاق المالكيّة أنّه لا فرق بين السّفه الاستمراريّ والطّارئ في الولاية، فالأحقّ الأب ثمّ وصيّه ثمّ الحاكم‏.‏

ولا ولاية للأمّ إلاّ على قول الأثرم من الحنابلة ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة‏:‏ حيث تجوز ولاية الأمّ إن لم يكن وصيّ‏.‏ كما لا ولاية للجدّ والعصبات عند المالكيّة والحنابلة‏.‏

وتعليل من لم يجعل للجدّ والعصبات ولايةً على المال - دون النّكاح -‏:‏ أنّ المال محلّ الخيانة، وغير الأب ووصيّه والقاضي قاصر عنها غير مأمون على المال‏.‏

وشروط الوليّ وواجباته وما يجوز له فعله أو لا يجوز تنظر في مصطلح ‏(‏ولاية‏)‏‏.‏

أثر السّفه في الأحكام المتعلّقة بحقوق اللّه

12 - لا يوجب السّفه خللاً في أهليّة الخطاب ولا يمنع شيئاً من أحكام الشّرع من الوجوب على السّفيه أو له فيكون مطالباً بالأحكام كلّها‏.‏

ولهذا لا تنعدم الأهليّة بسبب السّفه ولا يجعل السّفه عذراً في إسقاط الخطاب عنه بشيء من الشّرائع، ولا في إهدار عبارته فيما يقرّ به على نفسه من الأسباب الموجبة للعقوبة‏.‏

أثر السّفه في الزّكاة

12 م - أجمع الفقهاء على وجوب الزّكاة في مال السّفيه - فهو في وجوبها عليه كالرّشيد، لأنّها تصرّف لا يحتمل الفسخ والنّقض ولأنّ من عدا الحنفيّة أوجبوها في مال الصّغير والمجنون فوجوبها على السّفيه من باب أولى‏.‏

ولكن حصل الخلاف في من يدفعها هل هو أم وليّه‏؟‏

فذهب الجمهور إلى أنّه يدفعها عنه وليّه كسائر تصرّفاته الماليّة،لأنّها ولاية وتصرّف ماليّ‏.‏

وصرّح الشّافعيّة بأنّه لا يفرّق الزّكاة بنفسه لكن إن أذن له الوليّ وعيّن له المدفوع إليه صحّ صرفه، وذلك بحضرة الوليّ أو من ينوب عنه‏.‏

وذهب الحنفيّة‏:‏ إلى أنّه يدفعها إليه وليّه ليصرفها بنفسه، لأنّها عبادة فلا بدّ من النّيّة فيها، ولكن يبعث معه أميناً كي لا يصرفها في غير وجهها‏.‏

زكاة الفطر

13 - اتّفق الفقهاء على وجوب صدقة الفطر على السّفيه ومن تلزمه نفقته، وذلك لأنّه مسلم مكلّف حرّ، والسّفه فيه لا يعارض أهليّة الوجوب‏.‏

إلاّ أنّهم اختلفوا أيضاً في من يدفعها كما تقدّم في الزّكاة‏.‏

وإذا قصّر الوليّ في دفعها أخرجها هو بعد رفع الحجر عنه‏.‏

صدقة النّفل

ذهب الفقهاء القائلون بالحجر على السّفيه إلى منعه من صدقة النّفل‏.‏

أمّا الشّافعيّة فقد جوّزوها بإذن وليّه، لأنّهم يمنعون تصرّفه بغير إذنه‏.‏

أثر السّفه على الأيمان وكفّارتها

14 - إذا حلف السّفيه باللّه أو صفة من صفاته انعقد يمينه اتّفاقاً‏.‏

أمّا كفّارته‏:‏ فذهب الفقهاء إلى أنّ السّفيه يكفّر بالصّوم لا غير كابن السّبيل المنقطع عن ماله، ولا يكفّر بالعتق أو بالإطعام أو بالكسوة، لأنّه لو فتح هذا الباب لبذّر أمواله بهذا الطّريق، ولو كفّر بها لم يجزئه‏:‏ لأنّه تصرّف ماليّ فلم يصحّ منه‏.‏

وأجاز الشّافعيّة التّكفير بغير الصّوم إذا أذن الوليّ وعيّن المصرف وكان بحضرته أو من ينوب عنه كالزّكاة‏.‏

إلاّ أنّ أبا يوسف ومحمّداً قالا‏:‏ لو أعتق عن يمينه صحّ العتق ويسعى العبد في قيمته، ولا يجزئ عتقه عن الكفّارة، لأنّه عتق بعوض فلا يقع التّحرير تكفيراً‏.‏

وأمّا عند أبي حنيفة‏:‏ فبعد الخامسة والعشرين يكفّر كالرّشيد، لأنّه غير محجور عليه، وكذا قبلها لعموم آية اليمين‏.‏

ولو كفّر بالصّوم، وفي أثنائه فكّ حجره أو انتهى، بطل تكفيره بالصّوم، وعليه أن يكفّر كالرّشيد، لزوال الحجر عنه، أمّا لو فكّ عنه الحجر بعد انتهاء الصّيام فلا إعادة عليه للكفّارة‏.‏

أثر السّفه على النّذر

15 - إن نذر السّفيه عبادةً بدنيّةً وجبت اتّفاقاً، لأنّه محجور عن صرف أمواله وعن التّصرّف فيها، والعبادة البدنيّة لا تعلّق لها بالمال‏.‏

وإن نذر عبادةً ماليّةً - فقد حصل الخلاف في صحّتها على ثلاثة آراء‏:‏

الرّأي الأوّل‏:‏ تلزمه بذمّته لا بعين ماله فيثبت المنذور به في ذمّته، ويفي به بعد فكّ الحجر عنه وهو رأي الشّافعيّة‏.‏

الرّأي الثّاني‏:‏ لا تلزمه وهو قول الحنفيّة والحنابلة‏.‏

الرّأي الثّالث‏:‏ تلزمه ولكن من حقّ الوليّ إبطاله، وهو رأي المالكيّة‏.‏

أثر السّفه على الحجّ والعمرة

16 - أمّا حجّة الإسلام - وهي حجّ الفرض أداءً أو قضاءً‏.‏

فقد أجمع الفقهاء على وجوبها على السّفيه على صحّتها منه ولا يحقّ لوليّه حجره عنها، لأنّها وجبت بإيجاب اللّه تعالى، وتدفع النّفقة إلى ثقة ينفق عليه حتّى العودة‏.‏

أمّا الحجّ المنذور - فالّذي يظهر من مذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة لزومه فقد صرّحوا بلزوم النّذر في جميع العبادات الماليّة‏.‏

وعند أبي يوسف ومحمّد لا يلزم السّفيه حجّ النّذر‏.‏

وأمّا حجّ النّفل فيمنع منه، فإن أحرم به بعد الحجر صحّ وتدفع إليه نفقته المعهودة - وهي مقدار ما كان ينفقه لو كان في منزله‏.‏

17 - أمّا العمرة لأوّل مرّة فمن قال بوجوبها وهم الشّافعيّة والحنابلة قالوا بصحّة إحرامه بها، وتدفع نفقاته إلى ثقة ينفق عليه حتّى العودة، كما سبق في القول بالحجّ‏.‏

وبهذا قال الحنفيّة أيضاً - أي‏:‏ لا يمنع من أداء العمرة - فإنّهم وإن قالوا بسنّيّتها إلاّ أنّهم أجازوها منه، لاختلاف العلماء في وجوبها‏.‏

حتّى إنّهم قالوا‏:‏ لا يمنع الحاجّ من القران بالحجّ والعمرة، لأنّه لا يمنع من إفراد السّفر لكلّ واحد منهما فلا يمنع من الجمع بينهما‏.‏

أمّا المالكيّة‏:‏ فلم نجد تصريحاً لهم في هذه المسألة‏.‏

جنايته في الإحرام

18 - إذا أحرم بحجّ أو عمرة وحصلت منه جناية، فإن كان ممّا يجزئ في كفّارته الصّيام كفّر بالصّوم لا غير‏.‏ وإن كان لا بدّ من الدّم يؤخّر إلى ما بعد رشده - كالفقير الّذي لا يجد المال، وكذا لو جامع بعد الوقوف بعرفة تلزمه بدنة بعد أن يصير مصلحاً‏.‏ أي‏:‏ راشداً‏.‏

أثر السّفه في الأحكام المتعلّقة بحقوق العباد

19 - قال المالكيّة‏:‏ السّفيه مثل الصّبيّ المميّز إلاّ في الطّلاق واستلحاق النّسب ونفيه والقصاص والعفو عنه، والإقرار بموجب عقوبة‏.‏

أوّلاً‏:‏ أثره في النّكاح‏.‏

أ - زوال ولاية النّكاح بالسّفه‏:‏

20 - اختلف الفقهاء في زوال ولاية السّفيه وبقائها إلى مذهبين نظراً لاختلافهم في اشتراط الرّشد في الوليّ وعدمه‏.‏

المذهب الأوّل‏:‏ تزول ولاية الوليّ بالسّفه، لأنّه لا يصلح لأمر نفسه، فكيف يصلح لأمر غيره، فلا يصحّ إيجابه أصالةً ولا وكالةً أذن الوليّ أم لم يأذن، أمّا القبول فتصحّ وكالته فيه وهو المذهب عند الشّافعيّة وقول لمالك‏.‏

والمذهب الثّاني‏:‏ بقاء الولاية له، لأنّ رشد المال غير معتبر في النّكاح وأنّه كامل النّظر في أمر النّكاح، وإنّما حجر عليه لحفظ ماله‏.‏

وهو مذهب الحنفيّة والحنابلة والرّأي الثّاني للشّافعيّة، والمشهور من مذهب مالك‏.‏

ب - تزويج المرأة السّفيهة نفسها‏:‏

21 - من لم يجوّز للمرأة الرّشيدة تزويج نفسها لم يجوّزه للسّفيهة من باب أولى‏.‏

وأمّا من جوّز إنكاح الرّشيدة نفسها كأبي حنيفة، وزفر ومحمّد في رواية عنه وأبي يوسف في ظاهر الرّواية فقد اختلفوا في إنكاح السّفيهة نفسها، فأبو حنيفة وزفر والحسن لا يرون الحجر عليها، لأنّ أبا حنيفة لا يقول به‏.‏ فللسّفيهة عنده أن تزوّج نفسها‏.‏

وأمّا غيره ممّن لا يشترط الوليّ فقال محمّد‏:‏ ينعقد موقوفاً ولا ينفذ إلاّ بإجازة الوليّ‏.‏

ج - أثر السّفه في النّكاح‏:‏

22 - اتّفق الفقهاء على صحّة نكاح المحجور عليه للسّفه ولكنّهم اختلفوا في اشتراط إذن الوليّ لصحّته‏.‏

فذهب الحنفيّة والقاضي من الحنابلة - إلى صحّة نكاحه أذن الوليّ أو لم يأذن، و علّلوا ذلك بأنّه عقد غير ماليّ ولزوم المال فيه ضمنيّ، ولأنّه يصحّ مع الهزل، ولأنّه من الحوائج الأصليّة للإنسان‏.‏

وفي قول للحنابلة يصحّ بشرط احتياجه إليه، وقالوا‏:‏ لأنّه مصلحة محضة والنّكاح لم يشرع لقصد المال، وسواء كانت الحاجة للمتعة أم للخدمة‏.‏

وذهب الشّافعيّة وأبو ثور‏:‏ إلى عدم صحّته إلاّ بإذن الوليّ، لأنّه تصرّف يجب به المال فلم يصحّ بغير إذن وليّه كالشّراء وقد جعلوا الخيار للوليّ‏:‏ إن شاء زوّجه بنفسه وإن شاء أذن له ليعقد بنفسه‏.‏

فإذا تزوّج بغير إذن وليّه فلا شيء للزّوجة إن لم يدخل بها عند الشّافعيّة، فإن دخل بها فلا حدّ للشّبهة‏.‏ ولا يلزمه شيء - كما لو اشترى شيئاً بغير إذن وليّه وأتلفه، والقول الثّاني يلزمه مهر المثل - كما لو جنى على غيره، والثّالث‏:‏ يلزمه أقلّ شيء يتموّل‏.‏

وذهب المالكيّة إلى صحّة نكاح المحجور عليه بسفه، ويكون النّكاح موقوفاً على إجازة الوليّ، فإن أجازه نفذ، وإن ردّه بطل ولا شيء للزّوجة، وهل يحقّ للوليّ إجبار السّفيه على النّكاح‏؟‏‏.‏

جوّز الحنابلة ذلك إن كان السّفيه محتاجاً إليه - بأن كان زمناً أو ضعيفاً يحتاج إلى امرأة تخدمه، فإن لم يكن محتاجاً إليه فليس للوليّ ذلك، وهو مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة‏.‏

22 م - أمّا المهر فأبو حنيفة يثبت لمن نكحها المحجور عليه بسفه المهر المسمّى، لأنّه لا يرى الحجر عليه‏.‏

وقال غيره يتقيّد بمهر المثل، ولا تصحّ الزّيادة ولو بإذن الوليّ، لأنّها تبرّع وهو ليس من أهلها، إلاّ أنّ الحنابلة في أحد الوجهين اعتبروا الزّيادة لازمةً إذا أذن بها الوليّ‏.‏

أثر السّفه على الطّلاق والخلع والظّهار والإيلاء

23 - ذهب أكثر أهل العلم إلى وقوع الطّلاق من السّفيه المحجور عليه وعلّلوا ذلك‏:‏ بأنّه غير متّهم في حقّ نفسه والحجر إنّما يتعلّق بماله‏.‏ والطّلاق ليس بتصرّف في المال فلا يمنع كالإقرار بالحدّ بدليل أنّه يصحّ من العبد بغير إذن سيّده مع منعه من التّصرّف في المال‏.‏ وقال ابن أبي ليلى والنّخعيّ وأبو يوسف‏:‏ لا يقع طلاقه، لأنّ البضع يجري مجرى المال، بدليل أنّه يملكه بمال ويصحّ أن يزول ملكه عنه بمال فلم يملك التّصرّف فيه كالمال‏.‏

وأمّا خلعه فيصحّ، إلاّ أنّها لا تسلّم بدل الخلع إليه بل إلى وليّه، فإن سلّمته إليه فتلف في يده أو أتلفه وجب عليها الضّمان - كما في البيع‏.‏

ولو دفعته إليه بإذن وليّه ففيه وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ تبرأ كما لو سلّمته إلى العبد بإذن سيّده‏.‏

وثانيهما‏:‏ لا تبرأ، لأنّه ليس من أهل القبض‏.‏

وأمّا الرّجعة‏:‏ فتصحّ منه ولو لم يأذن وليّه‏.‏

ويقع ظهار السّفيه وإيلاؤه، إلاّ أنّه يكفّر بالصّوم لا بالعتق والإطعام كما تقدّم في كفّارة اليمين، فإن كفّر بالعتق لم ينفذ، وإن كفّر بالإطعام لم يجز، لأنّه تصرّف ماليّ، فإن فكّ عنه الحجر قبل الصّوم كفّر كالرّشيد لا إن فكّ بعد الصّوم‏.‏

ولو طلبت السّفيهة الخلع‏.‏ فعند الشّافعيّة والحنابلة ومحمّد بن الحسن، إذا بلغت رشيدةً وحجر عليها لم يصحّ خلعها، ولو خالعها بلفظ الخلع فإن كان بعد الدّخول طلقت رجعيّاً، وإن كان قبله طلقت بائناً ولا مال له‏.‏ ولغا ذكر المال، لأنّها ليست من أهل التزامه وإن أذن لها الوليّ‏.‏ وإن لم يحجر عليها يصحّ‏.‏

أمّا المالكيّة‏:‏ فقالوا لا يصحّ الخلع إن طلبته السّفيهة وبذلت منها المال بدون إذن وليّها، وإن بذله غيرها أو هي بإذن الوليّ صحّ، وإلاّ بانت منه بدون عوض‏.‏

أثر السّفه على إسقاط الحضانة

24 - اختلف الفقهاء في كون السّفه مانعًا المرأة من الحضانة أو مسقطاً لها‏.‏

فذهب من اشترط في الحاضنة الرّشد وهم المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّ السّفه مانع منها ومسقط لها فليس للسّفيه أولويّة الحضانة بالصّبيّ والصّبيّة‏.‏

وعلّلوا ذلك‏:‏ بأنّه مبذّر فلربّما يتلف مال المحضون أو ينفق عليه منه ما لا يليق به، أمّا الحنفيّة والحنابلة فلم يشترطوا في الحاضنة الرّشد لدى ذكرهم شروط الحاضنة، لذا فإنّ السّفه غير مؤثّر في إسقاط الحضانة عندهم‏.‏

نفقة المحجور عليه لسفه

25 - اتّفق الفقهاء على أنّه ينفق على السّفيه المحجور عليه من ماله، وكذا ينفق على من تلزمه نفقته، ويتولّى ذلك وليّه بأن ينفق عليه بالمعروف، وذلك لأنّ النّفقة من حوائجه، ولأنّها حقّ أقربائه عليه، والسّفه لا يبطل حقّ اللّه ولا حقّ النّاس‏.‏

أثر السّفه على البيع والشّراء

26 - إن باع السّفيه أو اشترى شيئاً بغير إذن وليّه لا ينعقد بيعه ولا شراؤه عند جمهور الفقهاء، وعند مالك وأبي يوسف ومحمّد ينعقد موقوفاً على إجازة الوليّ والقاضي، فإن رأى في ذلك خيراً أجازه، وإن رأى فيه مضرّةً ردّه‏.‏

وذلك لأنّ تصرّفه بغير إذن وليّه يفضي إلى ضياع ماله، وفيه ضرر عليه‏.‏

وإن أذن له فعند الحنفيّة والمالكيّة ينفذ بيعه وشراؤه، وذهب الشّافعيّة في الأصحّ والحنابلة في أحد وجهين إلى عدم صحّة العقد، وذهب الشّافعيّة في مقابل الأصحّ - والحنابلة في الوجه الآخر - إلى صحّة عقده، ومحلّ الوجهين عند الشّافعيّة إذا عيّن له الوليّ قدر الثّمن وإلاّ لم يصحّ جزماً، ومحلّهما أيضاً فيما إذا كان التّصرّف بعوض كالبيع، فإن كان خالياً عنه كهبة لم يصحّ جزماً‏.‏

أثر السّفه على الهبة

أوّلاً‏:‏ هبة السّفيه للغير

27 - لا خلاف بين الفقهاء القائلين بالحجر على السّفيه - في عدم صحّة هبته إذا كانت بدون عوض ولو أذن له الوليّ‏.‏

لأنّها تبرّع ماليّ وهو ليس من أهله، ولأنّها من التّصرّفات الّتي تحتمل النّقض والفسخ، ولأنّها تحتاج إلى الإيجاب وهو ليس من أهله‏.‏

أمّا إذا كانت بعوض - فقد صرّح المالكيّة بصحّتها إن أذن وليّه بها‏.‏

ثانياً‏:‏ الهبة له

تصحّ الهبة له عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة، والأصحّ عند الشّافعيّة، لأنّها ليست تفويت مال بل تحصيله‏.‏

أثر السّفه على الوقف‏:‏

28 - بما أنّ الوقف نوع من التّبرّع الماليّ وهو محجور عليه لحفظ ماله وأنّه ليس أهلاً للتّبرّع فلا يصحّ منه الوقف‏.‏

أثر السّفه على الوكالة

أوّلاً‏:‏ كون السّفيه وكيلاً

29 - صرّح الشّافعيّة والحنابلة بأنّ كلّ ما جاز له أن يعقده بنفسه جاز كونه وكيلاً فيه، كلّ ما لا يمكن أن يفعله بنفسه لا يصحّ أن يكون وكيلاً فيه، إلاّ قبول النّكاح عند الشّافعيّة فإنّه يصحّ له أن يكون وكيلاً في قبوله لا في إيجابه، لأنّ الإيجاب ولاية وهو ليس من أهلها إلاّ أن يأذن له الوليّ، ويؤخذ من كلام الحنفيّة صحّة وكالة السّفيه بإذن الوليّ‏.‏

ثانياً‏:‏ توكيله للغير

30 - لا يصحّ توكيله لغيره في كلّ ما لا يصحّ له أن يتصرّف فيه بنفسه، وأمّا ما يصحّ أن يتصرّف فيه بنفسه كالطّلاق والخلع وطلب القصاص ونحوه فيجوز له أن يوكّل غيره عنه، لأنّ الوكيل يقوم مقام الأصيل في الإيجاب والقبول، فلا بدّ أن يكون من أهلهما‏.‏

واستثنى الشّافعيّة النّكاح فإنّه وإن صحّ له أن يعقده لنفسه إن أذن له به فإنّه لا يوكّل به غيره‏.‏

أثر السّفه على الشّهادة

31 - اختلف الفقهاء في قبول شهادة السّفيه على اتّجاهين‏:‏

الأوّل‏:‏ قبولها إن كان عدلاً - وهو قول الحنفيّة ورواية أشهب عن مالك، وهو الّذي يظهر من مذهب الحنابلة حيث لم يشترطوا في الشّاهد الرّشد‏.‏

والثّاني‏:‏ عدم قبولها، وهو رواية أخرى عن مالك ومذهب الشّافعيّة نقله النّوويّ في أصل الرّوضة عن الصّيمريّ‏.‏

أثر السّفه على الوصيّة

32 - إذا أوصى السّفيه فهل تصحّ وصيّته أم لا‏؟‏ اختلف العلماء فيها على ثلاثة آراء‏:‏ الرّأي الأوّل‏:‏ صحّتها فيما يتقرّب به إلى اللّه تعالى من الثّلث، وهو مذهب الحنفيّة استحساناً والمذهب عند الحنابلة وبه قال المالكيّة إذا لم يحصل فيها تخليط، والمذهب عند الشّافعيّة وذلك لصحّة عبارته، لأنّه عاقل مكلّف، ولأنّ الحجر عليه لحفظ ماله وليس في الوصيّة إضاعة لماله، لأنّه إن عاش كان ماله له وإن مات فله ثوابه وهو أحوج إليه من غيره‏.‏ ويقول ابن رشد‏:‏ لا أعلم خلافاً في نفوذها‏.‏

الرّأي الثّاني‏:‏ عدم صحّتها منه لأنّه محجور عليه في تصرّفاته، وهو خلاف المذهب عند الحنابلة وقول عند الشّافعيّة إن حجر عليه وتصحّ قبل الحجر عليه‏.‏

والرّأي الثّالث‏:‏ عدم صحّتها إذا حصل تخليط - وهو أن يوصي بما ليس بقرب أو أن لا يعرف في نهاية كلامه ما ابتدأ به لخرفه، وسواء كان مولّىً عليه أم لا وهذا رأي المالكيّة والحنفيّة‏.‏

الإيصاء له وقبوله الوصيّة

33 - لا خلاف في جواز الإيصاء للسّفيه ولكن الخلاف في صحّة قبوله الوصيّة فذهب الشّافعيّة في الأصحّ عندهم إلى عدم صحّة قبوله لها، لأنّها تملّك، ولأنّها تصرّف ماليّ وهو ما اقتضاه كلام أصل الرّوضة‏.‏

وجزم الماورديّ، والرّويانيّ، والجرجانيّ بصحّة قبوله لها كالهبة‏.‏

أمّا الإيصاء إليه - أي‏:‏ جعله وصيّاً فذهب الفقهاء القائلون بالحجر على السّفيه إلى أنّه لا يصحّ الإيصاء إليه، لعدم هدايته إلى التّصرّف في الموصى به، إذ لا مصلحة في تولية من هذا حاله، وكذلك اشترط المالكيّة كون الوصيّ رشيداً‏.‏

أثر السّفه على القرض

34 - لم يختلف القائلون بالحجر على السّفيه في عدم جواز إقراضه لغيره، لأنّ القرض فيه نوع تبرّع فلا يصحّ منه، وكذلك فإنّ الإقراض يتنافى مع حجره عن ماله، أمّا استقراضه من الغير فلا يحقّ للسّفيه الاستقراض ولا يملك المال الّذي استقرضه، لأنّه محجور عليه لعدم الرّشد، فإن كان المال المستقرض باقياً ردّه وليّ السّفيه إلى المقرض‏.‏ وإن تلف لم يضمنه السّفيه، لأنّ المالك مقصّر، لأنّه هو الّذي سلّطه عليه برضاه وسواء علم بالحجر عليه أم لم يعلم، إذ هو مفرّط في ماله‏.‏

إلاّ أنّ الحنفيّة استثنوا من منعه من الاستقراض ما يلي‏:‏

أ - إذا استقرض لدفع صداق المثل، لأنّه إسقاط له عن ذمّته، فإن استقرض للمهر وصرفه في حاجاته الأخرى لم يكن للمقرض شيء عليه‏.‏

ب - إذا استقرض لنفقة نفسه نفقة المثل إذا لم يكن القاضي صرف له نفقته لتلك المدّة ففي هذه الحالة يلزم القاضي بقضاء القرض، لأنّه لا فساد في صنيعه هذا‏.‏

أمّا إذا صرف له نفقته فلا يصحّ استقراضه‏.‏

وإن استقرض ما فيه زيادة على نفقة مثله قضى عنه نفقة المثل لتلك المدّة وأبطل الزّيادة ‏;‏ لأنّ في الزّائد معنى الفساد والإسراف‏.‏

أثر السّفه على الإيداع

35 - إيداع السّفيه ماله نوع تصرّف منه بالمال وهو محجور عن ذلك، وأمّا الإيداع عنده فإنّه يشبه الوكيل فلا بدّ من كونه جائز التّصرّف، والسّفيه ممنوع من التّصرّف، وإذا أودع شخص لديه مالاً فأتلفه فهل يضمنه‏؟‏ في المسألة وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لا يجب ضمانه، لأنّ المودع قد فرّط في التّسليم إليه، وهذا مذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة، وصرّح المالكيّة بأنّه لا يضمن وإن أذن له وليّه‏.‏

ثانيهما‏:‏ يجب ضمانه، لأنّه لم يرض بالإتلاف‏.‏

أثر السّفه على غصب مال الغير وإتلافه

36 - إذا غصب السّفيه مال غيره أعاده إن كان موجوداً، وإن تلف المغصوب أو أتلف مال إنسان ضمنه، لأنّ العبد والصّبيّ يضمنان المال المتلف وهما أشدّ حجراً منه فهو من باب أولى، ولأنّه لم يسلّط عليه من قبل صاحبه كالوديعة، فإن كان له مال حاضر أخذ من ماله قيمة المغصوب، وإن لم يكن له مال أتبع به في ذمّته إلى وجود المال‏.‏

واستثنى المالكيّة ما إذا أخذه منه وليّه ليحفظه لربّه فإنّه لا يضمن في الأصحّ‏.‏

أثر السّفه على الشّركة

اشترط الفقهاء في الشّريك أن يكون من أهل التّصرّف كالبيع - وهو الحرّ البالغ الرّشيد وأن يكون كلّ منهما من أهل التّوكّل والتّوكيل، ولذا لا تصحّ الشّركة من السّفيه إلاّ بإذن وليّه عند من يجوّز تصرّفاته بإذن وليّه، لأنّه تصرّف في ماله وهو محجور عنه‏.‏

أثر السّفه على الكفالة والضّمان

37 - ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم صحّة كفالة السّفيه لأنّ شرط صحّتها أن تكون ممّن يصلح تبرّعه وتصرّفه، لأنّها التزام‏.‏

وذهب القاضي من الحنابلة إلى جواز ضمان السّفيه، لأنّ إقراره صحيح يتبع به بعد فكّ حجره، فكذا ضمانه يتبع به بعد فكّ حجره‏.‏ أمّا الكفالة فإنّه منعها مطلقاً‏.‏

والأذرعيّ من الشّافعيّة صحّح كفالته بإذن وليّه في الرّأي الأظهر‏.‏

وقد جوّزها المالكيّة إذا كانت بإذن الوليّ‏.‏

أمّا كونه مكفولاً عنه فقد جوّز الحنفيّة والحنابلة كفالة شخص للسّفيه، لأنّ رضى المكفول عنه ليس شرطاً عندهم، وكذا عند الشّافعيّة يصحّ ضمانه، لأنّ قضاء دين الغير جائز دون إذنه فالتزام قضائه أولى، أمّا كفالته فتصحّ، فإن خلا عن تفويت مال فيعتبر إذنه، وإن كان فيه تفويت مال كأن احتاج إلى مؤنة سفر لإحضاره فالمعتبر إذن الوليّ‏.‏

وجوّز المالكيّة‏:‏ كفالته في الأرجح فيما لا بدّ له من صرفه وبما يلزمه من ذلك، وذلك أنّ ما أخذه السّفيه أو اقترضه أو باع به شيئاً من متاعه يرجع الضّامن في ماله إذا أدّى عنه‏.‏

أثره على الحوالة

38 - السّفيه إمّا أن يكون محيلاً، أو محتالاً، أو محالاً إليه‏.‏

فإن كان محيلاً‏:‏ لا تصحّ إحالته، لأنّ ذلك تصرّف ماليّ كالبيع والشّراء ولأنّه لا بدّ من رضاه، ورضاه غير مقبول، لأنّه محجور عليه بالقول، وهذا لا خلاف فيه‏.‏

وإن كان محالاً فمن اشترط رضاه - وهم الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة - لا تصحّ إحالته عندهم، لأنّ رضاه غير معتبر لأنّه تصرّف في قبض ماله من غير مدينه فلا تصحّ إحالته إلاّ بإذن وليّه‏.‏

أمّا الحنابلة فإنّهم قالوا‏:‏ إن أحيل على مليء لا يشترط رضاه‏.‏

وإن كان محالاً عليه فقد اختلف الفقهاء في صحّة الحوالة على السّفيه على قولين‏:‏

أ - فذهب جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة في الأصحّ عندهم والحنابلة - إلى صحّة الحوالة عليه، وهذا مقتضى عدم اشتراطهم رضا المحال عليه لصحّتها، ويدفع عنه وليّه أو وصيّه‏.‏

ب - وذهب أبو يوسف ومحمّد والشّافعيّة في مقابل الأصحّ إلى عدم صحّة الحوالة على السّفيه، وهذا ما يقتضيه اشتراطهم رضا المحال عليه لصحّة الحوالة، والسّفيه ليس من أهل الرّضا والتّصرّف‏.‏ أمّا على مذهب أبي حنيفة من عدم الحجر على السّفيه فإنّ رضاه معتبر فالحوالة عليه صحيحة‏.‏

أثره على الإعارة

39 - إذا أعار السّفيه شيئاً أو استعار لا يصحّ، لأنّه تشترط في المعير والمستعير أهليّة التّبرّع وأن يكون مطلق التّصرّف، والسّفيه ليس كذلك‏.‏

وهل يضمن إذا استعار شيئاً فتلف‏؟‏ ذكر الحنابلة في الموضوع وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ لا يضمن، لأنّه أخذه باختيار مالكه‏.‏

وثانيهما‏:‏ يضمن، لأنّه لا يجوز له أن يستعير‏.‏

أثر السّفه على الرّهن والارتهان

40 - لا يجوز للسّفيه أن يرهن شيئاً عند آخر، ولا أن يرتهن شيئاً، لأنّ الفقهاء منهم من اشترط كون الرّاهن والمرتهن مطلق التّصرّف، وأن يكون من أهل التّبرّع والسّفيه ليس أهلاً لذلك، وكذا لا يصحّ لوليّه الرّهن إلاّ لضرورة أو غبطة - وهم المالكيّة والحنابلة والشّافعيّة - ومنهم من اشترط له الإيجاب والقبول، وأنّه عقد تبرّع، لذا لا يصحّ منه وهم الحنفيّة‏.‏

أثره على الصّلح

41 - لا يصحّ من السّفيه أن يصالح، لأنّ الصّلح عقد فيه معنى المعاوضة ومعنى التّبرّع والسّفيه ليس أهلاً لذلك‏.‏ انظر مصطلح ‏(‏صلح‏)‏‏.‏

أثر السّفه على الإجارة والمساقاة

42 - لا يصحّ من السّفيه أن يؤجّر، ولا أن يستأجر، ولا أن يساقي على بستانه إلاّ بإذن وليّه، لأنّها معاملة تحتمل النّقض والفسخ فلا تصحّ إلاّ من جائز التّصرّف كالبيع والشّراء، ولكن المالكيّة جوّزوا له أن يؤجّر نفسه إلاّ إذا حابى في الأجرة‏.‏

أثره على اللّقطة واللّقيط

43 - إن التقط السّفيه لقطةً أو وجد لقيطاً صحّ التقاطه، ولكن ينتزعه الوليّ منه لحقّ اللّقيط وحقّ مالك اللّقطة، ويقوم بتعريف اللّقطة، لأنّ اللّاقط ليس من أهل التّعريف هو يقوم مقامه في ماله فكذا في لقطته‏.‏

أثره على المضاربة

44 - لا يصحّ من السّفيه أن يضارب آخر أو أن يأخذ هو مالاً مضاربةً، لأنّها نوع من الشّركة، وأنّ العامل وكيل ربّ المال والشّرط في الشّريك أن يكون جائز التّصرّف، لأنّها عقد على التّصرّف في المال، فلا تصحّ من غير جائز التّصرّف، وكذا يشترط في الوكيل‏.‏

أثر السّفه على الإقرار

أوّلاً‏:‏ الإقرار بمال أو بدين أو غيره

45 - إذا أقرّ بدين أو إتلاف مال أو أقرّ بعين في يده فهل يصحّ إقراره قضاءً‏؟‏

في المسألة آراء‏:‏

الرّأي الأوّل‏:‏ عدم صحّة إقراره سواء أسند وجوب المال إلى ما قبل الحجر أم إلى ما بعده كالصّبيّ إذ إنّه محجور عليه لحفظ ماله‏.‏

فلو قلنا بصحّة إقراره توصّل بالإقرار إلى إبطال معنى الحجر، وما لا يلزمه بالإقرار والابتياع لا يلزمه إذا فكّ الحجر عنه، لأنّا أسقطنا حكم الإقرار والابتياع لحفظ المال، فلو قلنا بأنّه يلزمه إذا فكّ الحجر عنه لم يؤثّر الحجر في حفظ المال‏.‏

وهذا هو مذهب الحنفيّة والحنابلة والشّافعيّة، والأصحّ عند المالكيّة لكن الحنفيّة قالوا‏:‏ بعد صلاحه إن سئل عمّا أقرّ به وقال كان حقّاً أخذ به بعد رفع الحجر عنه‏.‏

أمّا الحنابلة‏:‏ فلهم قولان بعد فكّ الحجر عنه الأصحّ عدم إلزامه به، لأنّ المنع من نفوذ إقراره في حال الحجر عليه لحفظ ماله ودفع الضّرر عنه، فنفوذه بعد فكّه عنه لا يفيد إلاّ تأخير الضّرر عليه إلى أكمل حالتيه‏.‏

والرّأي الثّاني‏:‏ يلزمه بعد فكاك حجره، لأنّه مكلّف فيلزمه ما أقرّ به عند زوال الحجر كالرّاهن والمفلس‏.‏

والرّأي الثّالث‏:‏ يقبل قوله، لأنّه إذا باشر الإتلاف يضمن، فإذا أقرّ به قبل قضاء وهو المرجوح عند الشّافعيّة، أمّا ديانةً - فإن كان صادقًا في إقراره لزمه ردّه - بعد فكّ الحجر عنه‏.‏

ثانياً‏:‏ إقراره باستهلاك الوديعة

46 - إذا أقرّ بأنّ الوديعة الّتي أودعها إيّاه رجل قد هلكت، لا يصدّق في إقراره ولا يلزمه شيء، لأنّ إقراره غير ملزم له بالمال ما دام محجوراً كالصّبيّ‏.‏

ثالثاً‏:‏ إقراره بالنّكاح

47 - لو أقرّ السّفيه بالنّكاح فإنّه تابع للقول بصحّته منه، فمن أجاز إنشاءه منه قال بصحّة إقراره به كالحنفيّة، ومن قال لا بدّ من إذن وليّه لم يعتبر إقراره به، وهو ما عليه جمهور الفقهاء‏.‏ أمّا السّفيهة فيقبل إقرارها لمن صدّقها كالرّشيدة‏.‏

إذا لا أثر للسّفه من جانبها، لأنّ إقرارها يحصل به المال وهو المهر، وإقراره يفوت به المال‏.‏

رابعاً‏:‏ إقراره بالنّسب ونفيه

48 - اتّفق الفقهاء على أنّ إقرار السّفيه بالنّسب يصحّ منه ويلحق المقرّ به بنسبه إذ لا يؤثّر عليه السّفه، لأنّه ليس بمال فيقبل إقراره كالحدّ‏.‏

وإن لم يكن له مال أنفق على الملحق من بيت المال‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ هو إجماع من نحفظ عنه‏.‏

خامساً‏:‏ إقراره بالقصاص أو بحدّ من الحدود

49 - أجمع الفقهاء على صحّة الإقرار بما يوجب الحدّ وبما يوجب القصاص‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ هو إجماع من نحفظ عنه، لأنّه غير متّهم في نفسه، ولعدم تعلّقه بالمال، وعليه أرش جنايته، لأنّه تفريط من المالك، والإتلاف يستوي فيه جائز التّصرّف وغيره‏.‏ فإن عفا عنه المقرّ له فهل يسقط أم لا‏؟‏

ذكر الحنابلة فيه وجهين‏:‏ أصحّهما يسقط القصاص ولا يجب المال في الحال، لأنّ السّفيه والمقرّ له قد يتواطآن على ذلك ويجب عندهم إذا انفكّ الحجر عنه‏.‏

ويجب عند الشّافعيّة لأنّه تعلّق باختيار غيره لا بإقراره‏.‏

أمّا إقراره بما يوجب المال فلا يلزمه كجناية الخطأ وشبه العمد‏.‏

أثر السّفه في العفو عن الجناية أو القصاص الثّابت له

50 - إذا جنى عليه أحد جناية عمد في بدنه أو ثبت له حقّ القصاص بقتل مورثه وأراد العفو عن الجاني فهل يصحّ أم لا‏؟‏‏.‏

إن وجب له القصاص فله أن يقتصّ، لأنّ الغرض منه التّشفّي، وإن عفا عنه على مال كان الأمر له‏.‏

وإن عفا مطلقاً أو على غير مال فعلى القول بوجوب القصاص لا غير صحّ عفوه، وعلى القول إنّ الواجب أحد الأمرين يصحّ عفوه على مال‏.‏

وهل يصحّ عفوه عن الدّية‏؟‏ لا يصحّ عفوه عنها عند الشّافعيّة والحنابلة، أمّا المالكيّة فالمشهور عندهم، وهو قول ابن القاسم يصحّ العفو بدون مال، إذ ليس فيه إلاّ العفو مجّاناً أو القصاص‏.‏

ولا يصحّ عفوه عند الفقهاء جميعاً عن جراح الخطأ، لأنّها مال، فإن أدّى جرحه إلى إتلاف نفسه وعفا عن ذلك عند موته كان من ثلثه كالوصايا‏.‏

وفي معنى الخطأ العمد الّذي لا قصاص فيه - كالجائفة‏.‏

سُفور

انظر‏:‏ تبرّج‏.‏

سَفير

انظر‏:‏ إرسال‏.‏

سفينة

التّعريف

1 - السّفينة معروفة، وتسمّى الفلك، سمّيت سفينةً، لأنّها تسفن وجه الماء أي‏:‏ تقشره فهي فعيلة بمعنى فاعلة، وقيل‏:‏ إنّما سمّيت سفينةً لأنّها تسفن الرّمل إذا قلّ الماء‏.‏

وقيل‏:‏ لأنّها تسفن على وجه الأرض أي‏:‏ تلزق بها‏.‏ والجمع سفائن وسفن وسفين‏.‏

ويستعمل الفقهاء هذا اللّفظ بالمعنى اللّغويّ نفسه ويشمل اسم السّفينة عندهم كلّ ما يركب به البحر، كالزّورق والقارب والباخرة والبارجة والغوّاصة‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالسّفينة

استقبال القبلة في السّفينة

2 - يجب استقبال القبلة على من يصلّي فرضًا في السّفينة، فإن هبّت الرّيح وحوّلت السّفينة فتحوّل وجهه عن القبلة وجب ردّه إلى القبلة ويبني على صلاته، لأنّ التّوجّه فرض عند القدرة وهذا قادر‏.‏ بهذا قال جمهور الفقهاء‏.‏

ويرىالحنابلة في وجه أنّه لا يجب أن يدور المفترض إلى القبلة كلّما دارت السّفينة كالمتنفّل‏.‏ هذا صرّح الحنابلة بأنّ الملّاح لا يلزمه الدّوران إلى القبلة إذا دارت السّفينة عنها وذلك لحاجته لتسيير السّفينة‏.‏

وللتّفصيل في الأحكام المتعلّقة بالموضوع،واستقبال المتنفّل على السّفينة‏(‏ر‏:‏ صلاة‏.‏ نفل‏)‏‏.‏

القيام في الصّلاة في السّفينة

3 - ذهب جمهور الفقهاء ‏"‏ المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف ومحمّد من الحنفيّة ‏"‏ إلى أنّه لا يجوز لمن يصلّي الفريضة في السّفينة ترك القيام مع القدرة كما لو كان في البرّ‏.‏ ويستدلّون بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «فإن لم يستطع فقاعداً» وهذا مستطيع للقيام، وبما روي «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا بعث جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه إلى الحبشة أمره أن يصلّي في السّفينة قائمًا إلاّ أن يخاف الغرق» ولأنّ القيام ركن في الصّلاة فلا يسقط إلاّ بعذر ولم يوجد‏.‏

ويقول أبو حنيفة‏:‏ بصحّة صلاة من صلّى في السّفينة السّائرة قاعداً بركوع وسجود وإن كان قادراً على القيام أو على الخروج إلى الشّطّ، وفي المضمرات والبحر عن البدائع‏:‏ أنّ فيه إساءة أدب‏.‏

ويحتجّ لأبي حنيفة على ما ذهب إليه بما يأتي‏:‏

أ - روي عن ابن سيرين أنّه قال‏:‏ صلّينا مع أنس في السّفينة قعوداً ولو شئنا لخرجنا إلى الجدّ‏.‏

ب - قال مجاهد‏:‏ صلّينا مع جنادة رضي الله عنه في السّفينة قعوداً ولو شئنا لقمنا‏.‏

ج - ذكر الحسن بن زياد في كتابه بإسناده عن سويد بن عقلة أنّه قال‏:‏ سألت أبا بكر وعمر رضي الله عنهما عن الصّلاة في السّفينة‏.‏ فقالا‏:‏ إن كانت جاريةً يصلّي قاعداً، وإن كانت راسيةً يصلّي قائماً من غير فصل بين ما إذا قدر على القيام أو لا‏.‏

د - أنّ سير السّفينة سبب لدوران الرّأس غالباً، والسّبب يقوم مقام المسبّب إذا كان في الوقوف على المسبّب حرج، أو كان المسبّب بحال يكون عدمه مع وجود السّبب في غاية النّدرة فألحقوا النّادر بالعدم، إذ لا عبرة بالنّادر، وهاهنا عدم دوران الرّأس في غاية النّدرة فسقط اعتباره وصار كالرّاكب على الدّابّة وهي تسير أنّه يسقط القيام لتعذّر القيام عليها غالباً كذا هذا‏.‏

الاقتداء في السّفن

4 - ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّه لا يجوز أن يأتمّ رجل من أهل السّفينة بإمام في سفينة أخرى، لأنّ بينهما طائفةً من النّهر أو البحر إلاّ أن تكونا مقرونتين فحينئذ يصحّ الاقتداء لأنّه ليس بينهما ما يمنع ذلك، فكأنّهما في سفينة واحدة لأنّ السّفينتين المقرونتين في معنى ألواح سفينة واحدة‏.‏

والمراد بالاقتران المماسّة بين السّفينتين مدّة الصّلاة ولو من غير ربط‏.‏ وهذا ما استظهره الطّحطاويّ‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالاقتران ربطهما بنحو حبل‏.‏

ومحلّ عدم صحّة الاقتداء عند الحنابلة كون الإمام والمأموم في غير شدّة خوف، وأمّا في شدّة الخوف فيصحّ الاقتداء للحاجة‏.‏

ويرى المالكيّة جواز اقتداء ذوي سفن متقاربة بإمام واحد يسمعون تكبيره أو يرون أفعاله أو من يسمع عنده، ويستحبّ أن يكون الإمام في السّفينة الّتي تلي القبلة‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ لو كان الإمام والمأموم في سفينتين مكشوفتين في البحر فكالفضاء فيصحّ اقتداء أحدهما بالآخر وإن لم تشدّ إحداهما إلى الأخرى بشرط أن لا يزيد ما بينهما على ثلاثمائة ذراع، وإن كانتا مسقّفتين أو إحداهما فقط فكالبيتين في اشتراط قدر المسافة وعدم الحائل ووجود الواقف بالمنفذ إن كان بينهما منفذ‏.‏

التّطوّع في السّفينة بالإيماء

5 - يرى الحنفيّة والحنابلة - وهو المعوّل عليه عند المالكيّة - أنّه لا يجوز للمسافر أن يتطوّع في السّفينة بالإيماء بخلاف راكب الدّابّة فيجوز له ذلك لورود النّصّ به وهذا ليس في معناه لأنّ راكب الدّابّة ليس له موضع قرار على الأرض وراكب السّفينة له فيها قرار على الأرض فالسّفينة في حقّه كالبيت‏.‏

هذا ولم نجد للشّافعيّة تصريحاً في مسألة التّطوّع بالإيماء في السّفينة‏.‏

التّعاقد على ظهر السّفينة

6 - إذا تعاقد شخصان على ظهر سفينة انعقد العقد سواء أكانت السّفينة واقفةً أم جاريةً‏.‏ قال الكاسانيّ‏:‏ لو تبايعا وهما في سفينة ينعقد سواء كانت واقفةً أو جاريةً‏.‏

وعلّل ابن الهمام عدم تبدّل مجلس العقد بجريان السّفينة بقوله‏:‏ السّفينة كالبيت فلو عقدا وهي تجري فأجاب الآخر لا ينقطع المجلس بجريانها لأنّهما لا يملكان إيقافها‏.‏

وللتّفصيل ‏(‏ر‏:‏ اتّحاد المجلس، صيغة، عقد، مجلس‏)‏‏.‏

الشّفعة في السّفن

7 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ من شروط وجوب الشّفعة أن يكون المبيع عقاراً أو ما هو بمعناه، فالشّفعة لا تثبت عندهم في السّفن‏.‏

ونقل عن مالك أنّه يقول‏:‏ بثبوت الشّفعة في السّفن، وهذا مقتضى إحدى الرّوايتين عن الإمام أحمد وهو قول أهل مكّة‏.‏ وللتّفصيل ‏(‏ر‏:‏ شفعة‏)‏‏.‏

انتهاء خيار المجلس في السّفينة

8 - يعتبر القائلون بخيار المجلس التّفرّق سبباً من أسباب انتهاء خيار المجلس والمرجع في التّفرّق إلى عرف النّاس وعادتهم فيما يعدّونه تفرّقاً، لأنّ الشّارع علّق عليه حكماً ولم يبيّنه فدلّ ذلك على أنّه أراد ما يعرفه النّاس فلو كان العاقدان في سفينة كبيرة فالنّزول إلى الطّبقة التّحتانيّة تفرّق كالصّعود إلى الفوقانيّة‏.‏

أمّا لو كانا في سفينة صغيرة فالتّفرّق يحصل بخروج أحدهما منها‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏خيار المجلس‏)‏‏.‏

اصطدام السّفينتين

9 - إن اصطدمت سفينتان بتفريط من مجرييهما فغرقتا ضمن كلّ واحد من المجريين سفينة الآخر وما فيها من نفس ومال، لأنّ التّلف حصل بسبب فعليهما فوجب على كلّ منهما ضمان ما تلف بسبب فعله كالفارسين إذا اصطدما‏.‏ بهذا قال جمهور الفقهاء‏.‏

ويرى الشّافعيّة أنّه يلزم كلّاً من المجريين للآخر نصف بدل سفينته ونصف ما فيها‏.‏ وللفقهاء في المسألة تفاصيل تنظر في ‏(‏إتلاف، قتل، قصاص، ضمان‏)‏‏.‏

إنقاذ السّفينة بإتلاف الأمتعة

10 - إذا أشرفت السّفينة على الغرق جاز إلقاء بعض أمتعتها في البحر، ويجب الإلقاء رجاء نجاة الرّاكبين إذا خيف الهلاك، ويجب إلقاء ما لا روح فيه لتخليص ذي الرّوح‏.‏

ولا يجوز إلقاء الدّوابّ إذا أمكن دفع الغرق بغير الحيوان وإذا مسّت الحاجة إلى إلقاء الدّوابّ ألقيت لإبقاء الآدميّين ولا سبيل لطرح الآدميّ بحال ذكراً كان أو أنثى، مسلماً أو كافراً‏.‏ وفي بعض فروع المسألة خلاف وتفصيل ينظر في ‏(‏إتلاف، ضمان‏)‏‏.‏

الامتناع عن إنقاذ السّفينة من الغرق

11 - اتّفق الفقهاء على وجوب إعانة الغريق على النّجاة من الغرق، فإن كان قادراً ولم يوجد غيره تعيّن عليه ذلك، وإن كان ثمّ غيره كان ذلك واجبًا كفائيّاً على القادرين‏.‏ فإن قام به أحد سقط عن الباقين، وإلاّ أثموا جميعاً‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ إعانة ج 5 / ف 5 /196‏)‏‏.‏

قال الحصكفيّ‏:‏ يجب قطع الصّلاة لإغاثة ملهوف وغريق وحريق‏.‏

يقول ابن عابدين‏:‏ المصلّي متى سمع أحداً يستغيث وإن لم يقصده بالنّداء أو كان أجنبيّاً وإن لم يعلم ما حلّ به أو علم وكان له قدرة على إغاثته وتخليصه وجب عليه إغاثته وقطع الصّلاة فرضاً كان أو غيره‏.‏ فتبيّن ممّا ذكر أنّ من رأى سفينةً مشرفةً على الغرق وهو قادر على إنقاذها يجب عليه القيام بذلك‏.‏

وهذا محلّ اتّفاق بين الفقهاء، وإنّما اختلفوا في تضمين من أمكنه إنقاذ السّفينة من الغرق فلم يفعل‏.‏

بتتبّع آراء أكثر الفقهاء في مسألة الامتناع من إغاثة الملهوف ونجدة الغريق وإطعام المضطرّ حتّى يهلكوا يتبيّن أنّهم لا يرتّبون الضّمان على الامتناع من إنقاذ سفينة مشرفة على الغرق مع القدرة على ذلك وإنّما يرون التّأثيم فيه ديانةً‏.‏

ويعلّل عدم تضمين الممتنع عندهم بأنّه لم يهلك أهل السّفينة ولم يكن سبباً في غرقهم فلم يضمنهم كما لو لم يعلم بحالهم‏.‏

ويرى المالكيّة وأبو الخطّاب من الحنابلة أنّ الممتنع مع القدرة يلزمه الضّمان لأنّه لم ينج أهل السّفينة من الهلاك مع إمكانه فيضمنهم‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ ترك ف /14، ج 11 / 204‏)‏‏.‏

سَفِيه

انظر‏:‏ سفه‏.‏